الهدوء هو الذي يعين الانسان على التفكر والتأمل
حنين عصفور
شاركت مع برنامج زاجل في فرصة لتجربة السفر الى دولة زاخرة بالتاريخ والمؤسسات الثقافية والمدنية، وأتاح لي البرنامج فرصة التواصل المباشر مع طلاب جامعة مدينة نابولي، بالإضافة الى اتاحته الفرصة للتعرف على جوانب جديدة في شخصيتي لم أكن واعية لها من قبل بالاضافة الى اكتساب صداقات جديدة سعدت بها جداً، ومن خلال المهام التي انيطت بي أصبحت أقدر على تحمل المسؤولية وازدادت ثقتي بنفسي.
إن أكثر ما لفت انتباهي خلال زيارتنا لايطاليا مع دائرة العلاقات العامة بالجامعة هو المواقع السياحية ومنها متحف الفاتيكان في مدينة روما، فرؤية التماثيل المنحوتة لأول وهلة والتمتع بمشاهدة لوحات لفنانين عالميين كان من أهم اللحظات التي جعلتني استحضر بعض المعلومات التي قرأتها مسبقا عن فنون العصور الوسطى وفي الوقت ذاته فإن رؤية كل هذه الفنون مجتمعة في مكان واحد قد أثار في نفسي الرغبة في قراءة المزيد عن فن وفناني العصور القديمة وفهم دلالات لوحاتهم ومنحوتاتهم.
إن فسماع المقطوعة الغنائية المفضلة لي لِبوتشيلّي في عرض أوبرالي في مدينة روما، والجلوس امام بحر نابولي والتمتع بمشاهدة المنظر بهدوء، والمشي بجانب مدرج الكولوسيوم ليلا وملامسة زخات المطر الخفيفة لوجهي، والتجول في شوارع فلورنسا واختبار الإحساس بعبق التاريخ، ومشاهدة المياه المتسربة بين الأحجار القديمة على جدران مدينة البندقية كل ذلك ساهم في اثراء الجانب الشعوري لدي.
تعلمت الكثير خلال الرحلة عن نظم استخدام المطارات واحترام الوقت والتيقّظ فهما المفتاحين الأساسيين لاجتياز التفتيش الأمني في المطارات، فالحضور مبكراً للمطار قبل موعد اقلاع الطائرة بمدة كافية، وارتداء الملابس المناسبة للتفتيش، والانتباه لشاشات عرض بيانات الرحلة، والتمتع بالصبر والهدوء كل ذلك يحدد دخول وخروج المطار بسلام.
إن عنصرا الوقت والفكر المنظم مهمين جدا لكل من يريد استخدام القطارات كوسيلة مواصلات، فالتخطيط المسبق للتحرك بواسطة القطار كالوصول مبكرا لاتباع اللوائح الخاصة بمسار الرحلة وقراءة المعلومات الواردة في تذكرة القطار واتباعها بدقة، يغني عن الكثير من المشاكل التي يمكن حدوثها جراء الاهمال.
إن نظام السير في إيطاليا واسع ومتشعب نظرا لاستخدام كافة وسائل المواصلات فيها ولكن اكثر ما لفت انتباهي من بين طرق المواصلات كان التنقل بواسطة القطارات، فالتنقل بين مدينة وأخرى خلال اقل من ساعتين مع مراعاة المسافة الطويلة بين المدن كان تجربة فريدة من نوعها، وما لاحظته هو ان لكل مدينة طرق مواصلات معينة تتناسب مع الطابع العام للمدينة، ففي مدينة نابولي مثلا لاحظت استخدام السكان للدراجات الهوائية بكثرة وهذا يوحي بشعبية المدينة اثناء التجول في شوارعها، بينما في البندقية فإن الباصات المائية كانت الطريقة الأساسية التي يمكن من خلالها التنقل بين المكان والآخر وهذا لأن المدينة مقامة على بحيرة مطلّة على البحر الأدرياتيكي.
زيارة أماكن عريقة في ايطاليا كان احد أهم الغايات التي اردت تحقيقها من خلال الزيارة، فخلال مرحلة التحضير للرحلة حاولت التعرف على اشهر فناني العصور الوسطى واعمالهم ومجرد القراءة عنهم ومشاهدة لوحاتهم ومنحوتاتهم عن بعد ادخل الى قلبي مزيجاً من مشاعر الدهشة والعظمة والفرح، فكيف لي ان أصف شعوري عند مشاهدة هذه الاعمال العظيمة على ارض الواقع ولمسها والاحساس بروح الفنان والعصر من خلالها بل ومشاهدة اعمال يرجع تاريخها الى ما قبل الميلاد بقرون كثيرة!
بالمقابل، فإن مشاهدة الزاوية التي تحوي اواني فخارية فلسطينية في متحف الفاتيكان تعود الى ما قبل الميلاد والتي تثبت احقية الشعب الفلسطيني بأرض فلسطين قد ولّد في نفسي الشعور بالإحباط والقهر. ولكن، بالتأكيد ان زيارة هذه الأماكن كان لها دور كبير في اثراء الجانب الشعوري لدي.
مدينة فلورنسا هي اكثر مدينة ايطالية قربا الى القلب من بين جميع المدن التي زرناها، فاليوم الثاني في هذه المدينة كان من اجمل الايام التي قضيتها في ايطاليا لأنني اختبرت تجربة التجول بهدوء في أرجاء وازقة المدينة والتمعن في ابنيتها القديمة حيث ان هذه الجولة كانت كافية لي كي استشعر روح العصور الوسطى. بالاضافة الى أنه لا يمكنني ان انسى جمال تجربة التجول في ازقة المدينة باستخدام الدراجة الكهربائية برفقة المشاركين الآخرين، ولا نسيان جمال مشهد الاضواء المنعكسة على مياه الجسر الشهير في فلورنسا.
عند سماع كلمة البندقية اتذكر مشهد حُفِرَ في مخيلتي اثناء التجول بالقارب المسمى بالجندول في ارجاء المدينة لجريان المياه الخفيف بين جدران البيوت العتيقة المغطاة بالطحالب في اسفلها حيث يذكرني بالآية الكريمة : “وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء”. الطبيعة في مدينة البندقية أخّاذة، واذا كانت الاجراءات الروتينية التي قمنا بها كركوب الباص المائي او عبور الجسور ممتعة ومريحة للعين والقلب، فكيف يكون الحال عند التجول بالجندول والتمعن بأقدم عناصر الطبيعة، والتنقل بين اجمل جزر المدينة والشعور بالابتهاج والراحة جراء مشاهدة البيوت الملونة في جزيرة بورانو والتمتع بهدوء جزيرتي مورانو وتورشيلو!
تتعدد جنسيات السيّاح القادمين الى ايطاليا وبالتالي فإن طباع وعادات كل مجموعة سياحية تختلف عن الاخرى، ولكن بالمجمل هم يتمتعون بالهدوء والنظام واللطف، والبعض منهم اكثر ما كان يميزهم رغبتهم بالاستمتاع باللحظة اذا كانوا متواجدين في مواقع سياحية والرغبة الجدية في الفهم اذا كانت مواقع ثقافية تاريخية.
استفدت من التواصل مع الطلبة الطليان خلال الزيارة لمدينة نابولي، فالتفاعل معهم عاد عليّ بفوائد ايجابية كثيرة سواء خلال تواجدي في نابولي او بعد مغادرتي لها، فخلال الرحلة كان دعمهم للمجموعة المشاركة على المستويين النفسي والثقافي قد عاد علينا بالمنفعة بأن شعرنا بالألفة والطمأنينة وكأننا لم نغترب عن بلدنا، بالإضافة الى استفادتنا على الصعيد الاكاديمي من خلال ممارسة اللغة الانجليزية معهم بشكل متواصل والذي بدوره ادى الى كسر الحواجز النفسية للحديث مع اجانب. أما بعد مغادرتنا للمدينة، فبعض المعلومات الارشادية والكلمات المهمة التي زودونا بها افادتنا خلال الايام التي تبقت لنا من الرحلة والأجمل هو اعانتهم لنا على الاحتفاظ بتفاصيل جميلة تتعلق بمدينة نابولي داخل عقولنا.
المطبخ الايطالي غنيّ بالاطباق اللذيذة والنكهات الشهيّة، فابتداءً من البيتزا والباستا الشهيّتين ومرورا بالقهوة الايطالية ذات الرائحة المنعشة والتيراميسو اشهر الحلويات الايطالية وانتهاءً ببوظة الجيلاتو التي لا تقاوم فكلها شهية بالطبع، وكلنني أشعر أن الاطباق الايطالية لا يصلح اعتمادها كبرنامج غذائي يومي لدسامتها العالية.
إن التفاعل مع الاماكن الطبيعية في ايطاليا كان له تأثير كبير وفعال على الجانب النفسي لدي، فقد قمت باستمداد السعادة والراحة والطاقة الايجابية العالية والاتزان النفسي من الاماكن الطبيعية التي تعرضنا لها وهذا امر طبيعي كوننا ابناء الطبيعة. كنت اشعر بأن الجلوس المطوّل أمام هذه الاماكن كان يعطيني الطاقة الكافية للتفاعل بإيجابية مع بقية المشاركين في المجموعة لبقية اليوم، وباعتقادي فإن تعرضنا المباشر للكثير من الاماكن الطبيعية والمناطق ذات الالوان الجميلة والجذابة والمباني الضخمة التي تجعل الانسان يخرج عن التفكير بأنانية ويصبح أكثر رحمة ووعيا باحتياجات الطرف الآخر كان له التأثير الاكبر على الالفة والاحترام والمحبة التي غمرت المشتركين دون وعيهم للسبب المباشر.
إن تجربة ركوب الباص المائي كانت تجربة فريدة من نوعها، فبالنسبة لي كان الباص المائي هو احد وسائل المواصلات غير الاعتيادية لذلك أحسست بالمتعة اثناء التنقل بين المكان والآخر بالإضافة الى انني كنت اعتبره فرصة للتمتع برؤية المناظر الخلابة عن قرب واستنشاق الهواء النقي.
أحسست خلال تواجدي في الجزر الايطالية التي قمنا بزيارتها في البندقية وكأنني داخل لوحة طبيعية تشع منها الحيوية والجمال والطاقة الايجابية والفرح، ولكن أكثر جزيرة لفتت انتباهي كانت جزيرة تورشيلو لسبب مهم بالنسبة لي وهو توافر عنصر الهدوء الممزوج بالطبيعة والذي افتقر اليه في حياتي اليومية.
إن تجربة السفر مع جماعة بعيدة عن محيط الأهل والأصدقاء تثري مختلف جوانب الشخصية، فشعور المسؤولية الشخصية لازمني طيلة فترة رحلتنا بشكل تصاعدي وتناسب طرديا مع استسهال تحمل تبعات وعوائق السفر، أي كلما ارتفع حس المسؤولية الشخصية كلما شعرنا بسهولة الموقف واصبح اجراءً روتينياً مقدوراً عليه، فالتغى لدي الخوف النابع من قلة التجربة واستطعت أن أكتشف ملامح في شخصيتي لم أكن واعية لها من قبل كالتعاطف غير المشروط مع الآخر ومتعة التفاعل مع الغرباء واختبار متعة الاستمتاع باللحظة، فتجربة السفر الى ايطاليا زادت من ثقتي بنفسي وعززت الاستقلالية لدي وساعدتني على فهم ذاتي بشكل أعمق وأدق.
أعتقد أنني استطيع السفر لوحدي في المرات القادمة، فعلى الأقل أصبحت لدي نقطة انطلاق اساسية أبدأ منها اذا اردت السفر لوحدي، فأصبحت لدي معرفة عامة بكل الامور التي تلزم أي شخص للسفر كتحضير اورق التأشيرة وشراء تذاكر الطيران وحجز الفنادق والتعامل مع نظم المواصلات المختلفة والمطارات، بل وباعتقادي فان تجربة السفر لوحدي في المرة القادمة ستكون أسهل وذلك لعدم تقيدي بخط سير رحلة جماعي يتطلب الانضباط والتماشي مع رأي ووقت الآخرين.
اننا نفتقد للطبيعة ذات المساحات الشاسعة في حياتنا في الوطن وعلى وجه الخصوص المسطحات المائية، الهدوء الذي يعين الانسان على التفكر والتأمل، تنوع الأماكن الترفيهية، النظام، التفرّد واحترام الاختلاف، وأخيرا احترام الوقت، كل هذه العناصر افتقدها في حياتي اليومية وأتمنى ان نصل الى مرحلة الاهتمام بالمواقع التاريخية والأثرية في كافة المدن الفلسطينية والاستفادة منها على الصعيدين الاقتصادي والثقافي.